من كنز دستويفسكي (رواية الجريمة والعقاب)



 تميز  دستويفسكي بقدرته على التعبير عن مكنونات النفس البشرية وما يعتمد بداخلها من عواطف ومشاعر كما عرف عنه اهتمامه بالأسلوب الذي بلغ معهم أرفع مستوى. وقد عرف بتوجهه الإنساني وبنزعته الفلسفية التي بدت واضحة في أعماله الأدبية حيث يتجلى في هذه الرواية التزاوج بين الصنعة الفنية والبعد الفكري الذي يضفي على الرواية ملمحاً رسالياً إن صح القول. وليس ذلك بمستغرب فإن دوستويفسكي كاتب يشكل بحد ذاته وحدة متكاملة وعالماً شائع الأرجاء يضطرم بشتى أنواع الفكر والصراعات، حتى تختلط العناصر ولا تتميز عن بعضها.




كنز ديستوفسكى فى المعرض

  بقلم   خالد منتصر    ٢٧/ ١/ ٢٠١٠- 
المصري اليوم
عشقت ديستوفسكى الذى اعتبرته أعظم روائى قام بتشريح النفس البشرية فى تاريخ الأدب العالمى، وها هو كنز ديستوفسكى ينتظر أن تغرف منه الماس والياقوت والمرجان من مغارة على بابا فى جناح هيئة الكتاب، ثمانية عشر مجلداً من ترجمة العظيم سامى الدروبى الذى نذر حياته لتقديم ديستوفسكى للقراء العرب، مستعد أن تتهمنى بالإعلان وبالترويج لروسيا وأى تهمة تختارها فى سبيل أن يقرأ شباب مصر هذا العملاق، باختصار فكرك وعواطفك وتحليلك وسلوكك ومواقفك حتماً ستختلف بعد هذه الرحلة الممتعة مع هذا الكنز، فأنت بعد ديستوفسكى مختلف تماماً عما قبل ديستوفسكى.
اغتاظ منه عالم النفس فرويد وقال: «كل مرة أنتهى من كتابة بحث عن حالة نفسية، أجد ديستوفسكى قد كتب عنها فى رواياته»، وعندما سئل أينشتين عن عبقرى القرن التاسع عشر رد بلا تردد: «إنه ديستوفسكى»، بعد قراءة هذا الكنز ستنضم إلى قافلة المعجبين والمندهشين مثل أينشتين وفرويد، سيدهشك «راسكيلنكوف»، بطل الجريمة والعقاب، وهو يقنعك فى صراعه النفسى بأن قتل المرابية اليهودية له مبرراته، سيأخذ بتلابيبك الشيطان «إيفان» والملاك «أليوشا» فى الإخوة كرامازوف، صراع الخير والشر فى هذه الرواية العبقرية التى تتنفس حياة على الورق لدرجة أنك تشم رائحة عرق أبطالها،
وتسأل نفسك فى رواية «الأبله»: هل يتحمل زماننا قديسين جدداً؟!، وفى رواية «المراهق» ستتسامح مع وقاحة هذا المراهق الأحمق لأنها بنت ظروفه الأكثر وقاحة، مع «مذلون مهانون» و«الإنسان الصرصار».. ستفهم الكون أكثر، وتختلق الأعذار للآخرين أكثر، وستتطهر بدموع شخصيات ديستوفسكى أكثر وأكثر.
هناك مبدعون تتفوق تفاصيل حياتهم على مفردات فنهم، وحياة ديستوفسكى من هذا النوع الأكثر دراماتيكية وقسوة من رواياته، أب ديكتاتور مدمن خمور، وأم مريضة بالسل، وطفولة ضيعها مرض الصرع واستهلكها تجواله فى أفقر مستشفيات موسكو حيث كان يعمل والده، شباب حائر فى تنظيم سرى أودى به إلى حكم إعدام انتظره فى عراء وجليد سيبيريا،
استبدل بعدها بالنفى والسجن أربع سنوات فى سجن تخجل من عفن أقبيته وقذارة جدرانه الحشرات، مسلسل مرعب ومثير من حياة ضنك ويأس وألم وعذاب، لكن عبقرية ديستوفسكى كانت فى تحويل رحيق العذاب إلى عسل روائى بديع المذاق.
شكراً لهيئة الكتاب التى أهدتنا هذا الكنز الرائع، فديستوفسكى أكبر عدسة مكبرة سنستخدمها لرؤية تشوهاتنا النفسية وخطايانا الإنسانية، إنه الطفل الذى شاهد الملك عارياً،
ورأى الحياة متجردة من كل قناع وماكياج، بكل قبحها ودمامتها، امتلك دهشة الطفل وهو الكهل الذى حرقت بشرته شمس العمر اللافحة ولم تستطع أن تحرق قلبه أو تقتل مشاعره وقدرته الجبارة على الرصد والحكى والمعمار الفنى العبقرى. لو قرأت كنز ديستوفسكى فى ٢٠١٠ فأنت حتماً محظوظ.




قصر نشر الرواية
وبينما كان ديستويفسكي ينشر أولى تلك الروايات : (الجريمة والعقاب) مسلسة في إحدى المجلات ، وبينما كان يرشف أولى قطرات شهرته العالمية ومجده ، وقع مع أحد الناشرين عقداً مهماً لنشر كل رواياته القادمة...ولكن الناشر الماكروضع شرطاً خبيثاً يلزم ديستويفسكي بتسليمه روايةً كاملة في موعدٍ محدد - قريب جداً - وإلا أصبح من حق الناشر نشر كل ما يكتبه ديستويفسكي دون أن يعطيه قرشاً [ كوبيكاً لو تحرينا الدقة ]...ومع ذلك وافق ديستويفسكي على هذا العقد بكل شروطه المجحفة ليتجاوز أزمته المادية ، معتقداً أن بإمكانه أن يوفي بشرطه الخبيث...ولكنه فيما بعد إكتشف أنه من الصعب جداً أن يؤلف روايتين في نفس الوقت...
حاول أن يكتب (الجريمة والعقاب) في الصباح والرواية الأخرى في المساء ، ولكنه لم يستطع...والموعد يقترببسرعة...عرض عليه أصدقاؤه أن يكتب كلٌ منهم جزء ، ويجمعونه لتصبح لديهم رواية...ولكنه رفض بإصرار أن يضع اسم ديستويفسكي على شيءٍ لم يكتبه بقلمه...وفي النهاية استقر عزمه على استخدام كاتبة اختزال تساعده في كتابةالرواية...أحضروا إليه فتاةً تدعى (أنا) ، ليملي عليها طوال الليل ، ثم تقوم هي في الصباح بتنسيق ما أملاه عليها...فيما بعد أصبحت هذه الفتاة هي زوجة ديستويفسكي ، وأنجب منها ابنه أليكسي الذي لم يلبث أن مات صغير السن ، واستوحاهديستويفسكي ليكون هو نفسه أليكسي بطل رواية (الأخوة كارامازوف)...
وأخذ ديستويفسكي - الذي عادةً يعكف على كتابة روايته الواحدة في سنين - يعمل جاهداً ليل نهار لينجز روايته الرائعة (المقامر) في ثمانية وعشرين يوماً فقط ، هي كل ما تبقى من المهلة التي تركها الناشر له...وفي اليوم الذي تنتهي فيهالمهلة ، كان ديستويفسكي يركض حاملاً ملازمه المكتملة ليسلمها إلى أقرب مركز شرطة ويحصل منهم على إقرارٍ بأنهم تسلموا هذه الملازم في هذا التاريخ ، وبهذا تجاوز ديستويفسكي هذه الأزمة من أزمات حياته الكثيرة...

No comments:

Post a Comment